Wednesday, November 26, 2014

مقترحات دي ميستورا في سورية: تسويات صغيرة وعوائق كبيرة

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


يسعى ستيفان دي ميستورا، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، لحشد التأييد الدوليّ والإقليميّ، لمقترحاته المتعلقة بـإقامة مناطق صراع "مجمَّدة" في مناطق سوريّة مختلفة، وفي مقدمتها مدينة حلب، والتوصل إلى هدناتٍ، أو مصالحاتٍ مؤقتةٍ، تتيح ممارسة إدارة ذاتيّة في هذه المناطق، ويجري التعبير عن هذه الإدارات، من خلال مجالس محليّة منتخبة، أو توافقيّة، يتمّ فيها تمثيل فصائل المعارضة المسلحة، بحسب حجم كلّ فصيلٍ وفاعليته. ولكن، ثمة عوائق جمّة تحول دون نجاح هذه الخطة التي تستهدف تحقيق تسويات محلية. 


خطة لتحريك الجمود
عُيِّن دي ميستورا في منصبه الحالي في مطلع يوليو/تموز 2014 مع انسداد أفق الحل السياسيّ في الأزمة السورية، وذلك بعد فشل مؤتمر "جنيف 2"، وعجز الأطراف الراعية للمؤتمر عن إطلاق جولة جديدة من المفاوضات بين النظام السوري والمعارضة، ثمّ إصرار النظام على إجراء الانتخابات الرئاسيّة في سورية في 3 يونيو/حزيران 2014، والتي نسفت ما تبقى من آمال المبعوث السابق، الأخضر الإبراهيمي، بشأن بيان "جنيف 1"، والمتعلق بإنشاء هيئة حكم انتقاليّة، كاملة الصلاحيات، تمهِّد الطريق إلى حلٍ شاملٍ للأزمة.

وقد تزامن تعيين دي ميستورا مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وتوسّع نفوذه بعد سقوط الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014، وسيطرته على مساحات واسعة في سورية والعراق، ثمّ إعلانه الخلافة الإسلامية في 29 يونيو/حزيران 2014؛ ما أدى إلى تراجع الاهتمام الدوليّ بالحل السياسيّ للأزمة السوريّة، في مقابل تركيز القوى الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة، على أولوية التفاوض مع إيران حول ملفها النووي من جهة، واحتواء تنظيم "داعش" ووقف تمدِّده في العراق، وحرمانه من " الملاذات الآمنة" في سورية، من جهة أخرى.  
واعتمادًا على قراءته التشابك الدوليّ والإقليميّ، وتناقض المصالح وتغيّر الأولويات، واستنادًا إلى تجربته الشخصيّة، وسيطٍ دولياً في صراعات، مثل كوسوفو ولبنان والعراق والسودان وغيرها، وعمله ممثلاً خاصاً للأمم المتحدة في أفغانستان، انطلق دي ميستورا من فكرة أنّ الأزمة السوريّة نزاع أهليّ مركّب، وأزمة دوليّة بالغة التعقيد، يصعب حلها في المدى المنظور، أو المتوسط.
الأخضر الإبراهيمي 
لذلك، اختار مدخلًا يختلف عن نهج سلَفَيه، كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، وركز على حلولٍ جزئيّةٍ وأهدافٍ متواضعةٍ، تتمحور حول خفض مستوى العنف وتحسين وصول المساعدات الإنسانية، وزرْعِ ما سماها "بذوراً لعملية سياسية شاملة"، بدلًا من الاستمرار في الرهان على توافقٍ دولي وإقليمي، يؤدي إلى وضع بيان "جنيف 1" موضع التنفيذ. 

بمعنى آخر، لم يقدِّم دي ميستورا تصورًا لحلٍ شاملٍ للأزمة، بل قدّم ما يعتبرها محاولةً "لتحريك" العجلة لإيجاد حلٍ لها. وبهذا، فهو لا يفكّر بحلٍ جذريٍ للأزمة السوريّة، بل بحلٍ لمهمته، بحيث تحقق نجاحًا ما في شأنٍ ما.
رهانات دي ميستورا
راهن دي ميستورا على موافقة النظام السوري وإيران على مقترحاته التي تتطابق شكليًا مع مشروعهما، والذي بُدئ فعليًا العمل بمقتضاه في مطلع العام الحاليّ، عبر عقد هدناتٍ مؤقتةٍ ومصالحاتٍ في مناطق حيويّة محاصرة، يصعب استرجاعها عسكريًا، فقد حققا من خلاله، ومن دون دي مستورا، اختراقات في جبهات مهمة مثل المعضمية، وببيلا، وأحياء دمشق الجنوبيّة، وحي الوعر في حمص، بالإضافة إلى اتفاق خروج المقاتلين من حمص القديمة.
كوفي عنان 
لكنّ مشروع الهدنات السابق يختلف عما يطرحه دي ميستورا في بعض التفاصيل المهمة؛ فبينما يشترط النظام وقف إطلاق النار، وتجريد مناطق الهدنات من الأسلحة الثقيلة في مقابل إدخالٍ جزئي للمساعدات الإنسانيّة وتسوية أوضاع المطلوبين لديه، ما يمكّنه من خرق الهدنة، واقتحام المناطق، بعد أن ضمن تجريدها من سلاحها الثقيل (كما جرى في حمص القديمة، ويجري الآن في حي الوعر)، فإنّ دي ميستورا يطرح تجميدًا للصراع، بحيث يحتفظ كل طرفٍ بقدراته العسكرية.

لذلك، وعلى الرغم من ترحيب رئيس النظام السوري بتصريحات المبعوث الدولي، بعد لقائهما في دمشق في 12 سبتمبر/أيلول 2014، عن إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب، وضرورة إطلاق حوارٍ وطني داخلي، فإنه تجنّب إعطاء موقفٍ واضحٍ من المبادرة المطروحة، مكتفيًا بالقول "إنها جديرة بالدراسة". 

في المقابل، يتجاهل دي ميستورا مرجعية الحل السياسيّ التي قبلت بها المعارضة في "جنيف 2". وتنقسم المعارضة تجاه مقترحاته بين رفضٍ مطلقٍ (بعض أعضاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والحكومة المؤقتة، وفصائل من المعارضة المسلحة)، وقبولٍ مشروطٍ، عبَّر عنه رئيس المجلس العسكري في حلب، العميد زهير الساكت.

ولا يقتصر الانقسام تجاه مبادرة دي ميستورا على المعارضة السياسية والعسكريّة فحسب، وإنما يمتد إلى الشرائح الشعبية المناهضة للنظام، بين من يرى أنّ الأفكار المطروحة حلولٌ مجتزأة، تمثِّل انقلابًا على الثورة، واستسلامًا للنظام، وتفريطًا بما جرى تقديمه من تضحيات، وبين آخرين ينظرون إليها بوصفها تجميدًا مؤقتًا للحرب يخفِّف مأساتهم ومعانتهم.

ويعدّ الانقسام الراهن امتدادًا لنقاشٍ احتدم سابقًا، بشأن جدوى الهدنات والمصالحات المحلية والمبادرات التي أطلقها رئيس الائتلاف السابق، معاذ الخطيب، بما فيها زيارته أخيراً موسكو. وفي ضوء ذلك، ومع استمرار المعاناة وتغيّر الأولويات الدوليّة، يستمر دي ميستورا في حشد الدعم لمقترحاته، معوِّلًا على عدم ممانعة القوى الدوليّة والإقليميّة الفاعلة في الأزمة السوريّة، وعلى قبولٍ غربي ضمني، ولاسيما أنه يطرح أفكاره تحت عنوان "وقف تقدّم داعش". 

كما يعوِّل دي ميستورا على دعمٍ روسي لمقترحاته، والضغط على النظام لقبولها، بشكلها الحاليّ، من دون أي تعديلٍ على غرار مبادرة نزع السلاح الكيماوي. ومن ثمّ، يأمل أن تُطرح المبادرة على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بحيث يجري تبنيها مشروع قرارٍ ملزمٍ لجميع الأطراف، لوقف إطلاق النار في عموم سورية، أو في بعض الجبهات الساخنة على الأقل، وبطريقة تجعلها مكمّلة لقرار مجلس الأمن 2139 القاضي بإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، ودعوة جميع الأطراف لـ "وضع حـدٍ فـوري لجميع أعمـال العنـف الـتي تـؤدي إلى المعاناة الإنـسانية في ســورية".

عوائق تعترض سبيل المبادرة 
على الرغم من ترحيب أطرافٍ داخليةٍ وخارجيةٍ عدة بمقترحات دي ميستورا، فإنّ ترجمتها العملية تصطدم بعوائق عديدة، تعبِّر عنها (وإن بشكلٍ مواربٍ) مواقف هذه الأطراف. 

النظام وإيران: يتشابه مقترح دي ميستورا شكليًا مع مشروع الهدنات والمصالحات الذي بلورته إيران صيغةً لحل الأزمة السورية، وألزمت النظام بتنفيذه، لكنه يختلف، في تفاصيله المهمة وفي آلية التنفيذ. وترى إيران أنّ الموازين العسكريّة الحاليّة ترجّح كفّة النظام بشكل واضح، ولاسيما أنّ ضربات التحالف الدوليّ ضد تنظيم "داعش"، وضد حركات أخرى، مثل جبهة النصرة وأحرار الشام، أفادت النظام، وعزّزت موقفه العسكريّ، خصوصاً في حلب، وذلك باعتراف المسؤولين الأميركيين. 

وعلى الرغم من أهميّة مدينة حلب بالنسبة إلى النظام، فإنه يفتقد للعدد والعتاد اللذين قد يمكّناه من حسم المعركة فيها. لذلك، ربما يتجاوب النظام مع مقترح دي ميستورا في ما يتعلق بمدينة حلب فحسب، لكنه سيستمر في مسعاه، للسيطرة على الريف الشماليّ لحلب، وفك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء، واستخدامهما قاعدة عسكرية للانطلاق باتجاه المدينة غربًا، ومحاربة تنظيم "داعش" في الريف الشرقي، وتقديم نفسه طرفاً ميدانياً، يساعد التحالف في وقف تمدِّده. 

وفضلًا عن ذلك، يخشى النظام وإيران من ترويج مقترحات دي ميستورا دوليًا لتتحول إلى قرارٍ دولي ملزم. لذلك حرص، كعادته، في التعاطي مع المبادرات السياسية، على إبداء مرونة في دراسة المقترحات، من دون التزام قبولها. وفي هذا الإطار، أيضًا، يمكن فهم موقف علي أكبر ولايتي، مستشار مرشد الثورة، علي خامنئي، للشؤون الدولية، والذي رفض في 1 نوفمبر/تشرين ثاني 2014 طرح دي ميستورا إقامة ما أسماها "مناطق آمنة" في سورية.
سوري وابنته وسط دمار خلفه في شارع في حلب قصف جوي من النظام (يوليو/2014/أ.ف.ب)

المعارضة المسلحة: يقترح دي ميستورا هدنات ومصالحات في مناطق تسيطر عليها المعارضة المسلحة، لكنه يتجاهل قدراتها ووضعها ومواقفها من مقترحاته. فعلى سبيل المثال، نجده يطالب بتجميد الوضع العسكريّ في مدينة حلب، وإلى التفات فصائل المعارضة إلى محاربة "داعش" والحركات الجهادية، بيد أنه يتجاهل حقيقة عدم وجود فصائل قوية تابعة للجيش السوري الحر في المدينة، للقيام بذلك؛ فجبهة النصرة وجبهة أنصار الدين اللتان يصنفهما الغرب حركات إرهابية، فضلًا عن حركة أحرار الشام، المستهدفة بقصف التحالف، هي الفصائل الأكبر والأكثر تأثيرًا في المعادلة العسكريّة في المدينة. لذلك، من غير المفهوم كيف ستجمِّد هذه الفصائل القتال من أجل أن يتفرّغ التحالف لاستهدافها.
كما أنّ التطورات الأخيرة في عموم الشمال السوريّ، وتعاظم نفوذ جبهة النصرة وجماعة جند الأقصى المتحالفة معها، وتراجع الجيش الحر، ينزع الواقعيّة عن الأفكار المطروحة.

الموقف التركي:تجنّبت الحكومة التركية، حتى الآن، التعليق رسميًا على مقترحات دي ميستورا، لكنّ مؤشرات عدة تشير إلى تباينٍ في المواقف واختلافٍ في الرؤية. ففي الوقت الذي يسعى المبعوث الدولي لتجميد القتال في حلب، والتفرّغ لقتال "داعش"، تحذِّر تركيا من احتمال سقوط المدينة بيد النظام، وما قد يترتب على ذلك من موجة لاجئين كبيرة. كما تربط مشاركتها في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" باستهداف نظام بشار الأسد، وإقامة منطقة آمنة، وفرض حظر جوي فوقها. 

بالإضافة إلى ذلك، أثارت تصريحات دي ميستورا ودعوته إلى فتح الحدود أمام متطوعي حزب العمل الكردستاني، المصنَّف تركيًا حزباً إرهابياً، للقتال إلى جانب وحدات الشعب الكردية ضد "داعش" في مدينة عين العرب، حفيظة الحكومة التركية؛ إذ رفضت هذه الدعوة، ووصفتها بأنها "غير مسؤولة". لذلك، وبخلاف جولاته في معظم الدول الفاعلة والمؤثرة في الأزمة السوريّة، تجاهل دي ميستورا زيارة تركيا حتى الآن.
ونظرًا إلى دور تركيا المهم والمؤثر في الشمال السوريّ، فإنّ طرح مقترحات لتجميد القتال في حلب، من دون التنسيق مع تركيا، يبدو "غير واقعي".


الموقف الروسي: مع تعطّل الحل السياسيّ، وظهور تنظيم "داعش"، تراجع الحضور الروسيّ في الأزمة السوريّة، في مقابل اندفاعٍ وتدخلٍ عسكريّ غربي وإقليمي. وعلى الرغم من أنّ الضربات الجويّة للتحالف الدولي ضد "داعش" أفادت النظام السوري حليف روسيا، فإنّ الأخيرة تخشى من تغيّر الخطط والأهداف المعلنة في مراحل مقبلة. 

وقد عزّز من مخاوفها تجاهل الولايات المتحدة مطالبها باستصدار قرارٍ من مجلس الأمن، ينظِّم عمليات التحالف في سورية، ويحدِّد أهدافه بدقة. وترى روسيا أنّ حضور الغرب في الأزمة السوريّة عبر بوابة التحالف ومحاربة "داعش" قد يهمّش تدريجيًا دورها المحوري في حلٍ مستقبلي للأزمة. لذلك، وعلى الرغم من ترحيبها بمقترحات دي ميستورا، فإنّ روسيا ترى ضرورة تفعيلها في إطار أشمل، وإعادة إحياء عملية سياسية، تجمع طرفي النزاع في جولة مفاوضات جديدة، تحت مسمى مؤتمر "موسكو 1" أو "جنيف 3". 

كما تنظر موسكو للمتغيّرات في الملف السوريّ، ولاسيما بعد صعود تنظيم "داعش" وتقدَّم النظام، كفرصةٍ يمكن استغلالها لتعظيم مصالحها، وتبني رؤيتها في أي مفاوضات قادمة. ولتفعيل ذلك، استقبلت روسيا شخصيات من المعارضة السوريّة، لا تمانع في العودة إلى المسار التفاوضي لحلّ الأزمة، كما وجهت دعوة إلى وفدٍ من النظام، لإقناعه بسلوك المسار نفسه. ولهذا، من غير المرجح أن تدعم روسيا مقترحات دي مستورا. كما أنّ تبني هذه المقترحات عبر قرارٍ ملزمٍ من مجلس الأمن قد يسهم في تهميش الدور الروسي في الأزمة السوريّة.

وعلى الرغم من أنّ مقترحات دي مستورا تحظى بفرصةٍ للتنفيذ، فإنّ العوائق التي تنتظرها كبيرة؛ ما يعزّز احتمال استمرار حال الاستعصاء الراهنة في الأزمة السوريّة.

No comments: