Sunday, December 22, 2013

نحو مناهضة الثورة المضادة


مقاومة الثورةالإسلام السياسي والديمقراطيةمن التقدم إلى التقهقر القوى المناهضة للثورة المضادة

ما معنى ثورة؟ لننظر من حولنا، ما الذي نراه؟ سلسلة من الكوارث والصراعات وإراقة دماء!
أين وعود الحرية؟ في حياتنا اليوم قمع ومصادرة حريات وتعذيب أكثر من أي وقت مضى! وماذا عن العدالة الاجتماعية؟ التشدد والطائفية والعنف أضحت تطل برؤوسها علينا كل صباح ومساء.
أما أحلام الرخاء فاستبدلت بكوابيس ملأى بالدمار والقتل وهجر الديار.
هل قدمت الثورات أي شيء للشعوب؟ هل وعدتنا بالجنة على الأرض، لتعود وتفعل العكس وترمي بوجوهنا الجحيم لا غير؟

هذه بعض الأسئلة التي تدور في خلد كل عربي.
للأسف، لا توجد أجوبة سهلة لأي من تلك الأسئلة، لكن ما نعلمه بكل تأكيد هو أن الفظاعات التي ترتكب بحق الشعوب العربية لمطالبتها بالحرية والكرمة لا يوجد ما يبررها أو يجيزها.

وبالإجمال، علينا أن نضع في حسباننا بعض الحقائق التي لا يمكن أن نغفل عنها، وعلينا أن نذكر أنفسنا بها مرة تلو الأخرى، وهناك حاجة ملحة لتحديد المسار الأخلاقي للثورة بما يتعدى التشاؤم والتفاؤل والآمال الساذجة والبراغماتية السلبية.

لقد كانت الثورات العربية تختمر منذ وقت طويل، وجاءت أخيرا بشكل صادم إلى حد لا يصدق وخارجة عن المألوف بشكل كبير، إلا أنها بالكاد كانت مفاجئة.
لم تعبق نفوس شعوبنا بعبير الأمل مثل اليوم من قبل، ولم يمر عليها وقت من قبل كانت فيه أكثر استعدادا للتغيير، ولم تكن في يوم من الأيام عاقدة العزم على تحقيق حياة أفضل مما كانت عام 2011
للعرب تاريخ سياسي مشترك، والحال نفسه ينجر على الجغرافيا والخلفية الثقافية. وبناء على ذلك، لعله من الصواب القول إن الانتفاضات التي تفجرت في تونس وانتقلت شرارتها إلى مصر وأجزاء أخرى من العالم العربي -مهما كانت مختلفة- فإن وهجها نابع من سراج واحد.

إن هدف الثورة العربية كان ولا يزال هو التخلص من القمع والتسلط والدكتاتورية، لتعبيد الطريق نحو عصر جديد تسوده الحرية والكرامة والرخاء.

لم تعبق نفوس شعوبنا بعبير الأمل مثل اليوم من قبل، ولم يمر عليها وقت من قبل كانت فيه أكثر استعدادا للتغيير، ولم تكن في يوم من الأيام عاقدة العزم على تحقيق حياة أفضل مما كانت في عام 2011

لم يشهد التاريخ سلسلة من الثورات عبر القارات بهذا الشكل، حابسة الأنفاس وسريعة الانتشار وعفوية إلى أقصى حد يمكن تخيله.

لم يحدث أن انصهر الشيب والشباب، الرجال والنساء، الطبقتان الوسطى والعاملة في بوتقة واحدة بهذا الشكل.

لم يرَ العالم من قبل القوى العلمانية والقوى السياسية ذات الطابع الديني تخرج إلى الشارع معا وتمشي كتفا لكتف مثلما حدث في إرهاصات هذه الثورة (العربية).

لم يحدث من قبل أن صرخت حناجر أتباع هذه القوى السياسية من أجل الوفاق بدلا من الخصام بهذا الشكل.

ولم تكن في وقت من الأوقات تصدح بمطالب عادلة وعامة ومنطقية مثلما كانت عليه وقت الثورة،
لم يرَ العالم من قبل ثورة مسالمة وصادقة و"آسرة للقلب" مثل الثورة العربية.

مقاومة الثورة
وبالنظر إلى الوراء، فإن نسيم الثورة -الذي هب على تونس ووصل إلى مصر- كان أخاذا، ولكن "هيهات أن يصبح حقيقة".

كل بلد عربي تفاعل مع الثورة وفقا لظروفه وخصوصياته القطرية، وغالبا ما يؤطر التفاعل بطبيعة العلاقة بين النظام والمجتمع والدولة.

فلنأخذ سوريا مثلا، كان الرابط بين زواج السلطة بالطائفة من جهة، وتداخل العسكر في الدولة من جهة أخرى قويا إلى درجة كبيرة، الأمر الذي عانته الثورة ولا تزال أيما معاناة.

أما في تونس فتلك الروابط كانت أقل قوة، فتعافت الثورة بسرعة أكبر وبمستوى أقل من الصعوبات والعنف.

وعلى عكس الثورات الشمولية التي شهدها القرن العشرين في روسيا والصين وإيران وغيرها، فإن الثورات الديمقراطية تتطلب تغييرا جوهريا وغالبا مؤلما. التغييرات التي تؤدي إلى التغيير وتفكيك العناصر التي قامت عليها الأنظمة القديمة ومؤسساتها تتطلب لجم اندفاع تلك النظم نحو السلطة المطلقة وتحييد أتباعها الواسعي النفوذ والسلطان.

وعلى هذا الأساس، كان من الطبيعي أن تواجه الثورة العربية مقاومة عنيدة.
ولعل من أهم المؤشرات على ديمقراطية الثورة العربية هو سماحها للقوى المؤيدة للنظم -التي قامت ضدها أصلا- بالتنافس والعمل السياسي بصورة عادلة، متعالية بذلك على العادات السياسية القديمة القائمة على إقصاء الطرف الآخر.

إن الثورات فتحت المجال لبروز قوى جديدة تمثل تطلعات الشعوب تمثيلا كاملا، وهذه القوى -على أي حال- سوف تحتاج إلى وقت وجهد لتنظم نفسها في أحزاب ديمقراطية ذات أجندة شاملة مثلما حدث في مصر واليمن مثلا.
من المؤشرات على ديمقراطية الثورة العربية سماحها للقوى المؤيدة للنظم التي قامت ضدها بالتنافس والعمل السياسي بصورة عادلة، متعالية بذلك على العادات السياسية القديمة القائمة على إقصاء الطرف الآخر
إن "النظم القديمة" والقوى الرجعية رأت في كل ما يحدث أنه حرب وجود من شأنها أن تنهي نفوذهم وامتيازاتهم واحتمالات عودتهم إلى الحكم ثانية، ولذلك كانت تقاتل بعناد للحفاظ على السلطة، وقبيل النهاية استخدموا كل الوسائل لاستئصال جذوة الثورة.
ونتيجة لذلك، فإن الشعارات -التي صدحت بها الحناجر في الشوارع في السنوات الثلاث الأخيرة- لم يصل صداها إلى أروقة الحكم. وعندما وصلنا إلى السنة الثانية أضحت أحلام الحرية والرفاهية والعدالة الاجتماعية مجرد شعارات يرددها أبناء الثورة، وأخرى يرددها أبناء الثورة المضادة.
من جهة أخرى، لم تفتأ القوى المعادية للثورة -المحلية منها والخارجية- تعمل على إضعافها وخنق الأصوات المعارضة، وواجهت بعنف وقمع مستمر القوى المطالبة سلميا بالتغيير والتي لا تزال تفتقر إلى الخبرة الكافية في العمل السياسي.

إن استخدام النظام في سوريا للعنف مرارا وتكرارا، وكذلك في مصر وإن كان بحدة أقل، يجسد إفلاس وضعف الأنظمة في هذين البلدين اللذين يعتبران أهم جبهات المعركة ضد القوى المعادية للثورة.

إن تلك الأنظمة ترى في المعركة معركة وجود، وهي مستعدة للقتال حتى الموت، ومن دون شك حتى موت معارضيها.

استخدام النظام السوري المفرط للعنف في مواجهة الثورة السلمية -التي قامت عام 2011 - فتح الباب لدخول مجموعات مسلحة جديدة وتأسيس قواعد لها، وأثناء ذلك كله أريق الكثير من الدماء في سبيل إخضاع كل معارضي النظام، سواء كانوا متشددين أو معتدلين، وفرض الطاعة عليهم.

إن عبارة "أنا ومن بعدي الطوفان" تعني -إضافة إلى تأمين السلطة والامتيازات- أن نظام الأسد لن يتوقف ولن يوقفه شيء بغض النظر عن الثمن الذي سيدفعه السوريون أو الكلفة التي ستقع على سوريا كبلد.

في مصر سقط مبارك، ولكن نظامه بقي كما هو. وهكذا، استغل العسكر والمخابرات الفرصة واستثمروا مد المشاعر المعادية للرئيس المعزول محمد مرسي ولجماعة الإخوان المسلمين ليقوموا بانقلاب عسكري في يوليو/تموز 2013، بذريعة إنقاذ الثورة من الإسلاميين، ولكن في الحقيقة هم يريدون إلغاء كل ما تحقق بعد ثورة يناير 2011.

إن تشبث الجيش وما يسمى "الدولة العميقة" (المؤسسات التي طالما حمت ودافعت واستفادت من النظام القديم) أصبح واضحا للعيان بعد أن عرقل مهام الرئيس المنتخب وأطاح به ثم اعتقل وقيادات جماعة الإخوان المسلمين، ومعظمهم نواب منتخبون في مجلس الشعب.

إن الانتكاسات الكبيرة في هذين البلدين المهمين (سوريا ومصر) وغيرهما قد قتلت الفرحة بالثورة وهزت الأمل بالتغيير، خاصة أن التغيير لم يجلب سوى مزيد من عدم الاستقرار والعنف واليأس.

الإسلام السياسي والديمقراطية
إن قرار جماعة الإخوان المسلمين الالتحاق بالثورة، وقبولها بالنظام الديمقراطي اعتبرا أنهما مؤشر على ولوج عهد جديد من الاستقرار.

أما قرار الجماعة السريع الدخول في الانتخابات فقد ضمن الفوز للجماعة المنظمة التي يبلغ عمرها 82 عاما، وكان للسلفيين حظ من الفوز أيضا. وقد كانت المكاسب الانتخابية للإسلاميين في تونس وليبيا والمغرب واضحة وضوحا لا تخطئه عين.

ولكن، رغم أن الإسلاميين وافقوا على الانخراط في العملية الانتخابية فإنهم أظهروا فهما محدودا لطبيعة الديمقراطية.

وفي الحقيقة، انهالت عليهم الاتهامات بمحاولة الاستحواذ على السلطة من خصومهم وحلفائهم على حد سواء.

وهرع الكثيرون لإبراز مواطن الاختلاف بين الديمقراطية والإسلام السياسي. وارتفعت الأصوات المطالبة بحظر الإخوان، في ممارسة أعادت ذكريات المرحلة السابقة.
استخدام القوة على شاكلة النظام السوري، والتدخل الأجنبي كما حدث في ليبيا، وتسليح المجموعات المتطرفة قد ساهم بشكل كبير في تقويض أهداف الثورة، وتعبيد الطريق نحو مزيد من عدم الاستقرار 
صحيح أن الإسلاميين كانت لهم أخطاؤهم وإخفاقاتهم، إلا أنه من الواضح أنهم لم يعطوا الفرصة المناسبة لحكم مصر أكبر دولة عربية وأكثرها تأثيرا.
ما الذي كان سيحدث لو أن الإسلاميين والسلفيين استمروا في الحكم والتشريع؟ ما الذي كان سيحدث لو أن انتفاضة الثلاثين من يونيو/حزيران انتشرت وترسخت من دون تدخل العسكر؟ أعتقد أنه من الصعب الإجابة عن هذا التساؤل.
الآن، وبعد أن حشر إسلاميو مصر في الزاوية بشكل عنيف من قبل قوى تقول إن الإسلاميين لا يصلحون للديمقراطية (من المؤكد أن هذه القوى تشتمل على ليبراليين)، فإن فكرة اللجوء إلى أساليب غير سياسية للاستحواذ على السلطة بدأت تستولي على فكر وقناعات عدد متزايد من أتباع تلك القوى.

وليكن الحال ما يكون، لن يكون بمقدور أي من المعسكرين -العسكر والنظام القديم من جهة والإسلاميين وأتباعهم من جهة أخرى- ربح المعركة، أو يكون بمقدوره القيادة منفردا. وعلى الأرجح، سيكون كلا المعسكرين خاسرا بالنتيجة إذا سمحا باستمرار الاستقطاب بوتيرته الحالية التي تصيب البلاد بالشلل، وستكون خسارتهما ملموسة، وستطال مصداقيتهما وشرعيتهما.

من التقدم إلى التقهقر
في تقديري أن استخدام القوة على شاكلة النظام السوري والتدخل الأجنبي -كما حدث في ليبيا- وتسليح المجموعات المتطرفة قد ساهما بشكل كبير في تقويض أهداف الثورة، وتعبيد الطريق سالكا نحو مزيد من عدم الاستقرار وتعزيز البيئة الملائمة للعنف.

إن ما تقدم لا يعني وضع عنف القذافي والأسد والرئيس اليمني صالح والسيسي في كفة موازية للعنف الذي يلجأ إليه مواطنوهم للدفاع عن أنفسهم، وكما كتب نيلسون مانديلا في مذكراته فإن الطغاة هم الذين يحددون طبيعة وأسلوب المواجهة لا المضطهدين.

وهكذا، وبغض النظر عن دوافعهم، فإن الانتقال من الانتفاضة السلمية إلى المقاومة المسلحة والتدخل العسكري قد أعاق مسار الثورة، وخنق حظوظ التوافق الوطني على المديين القصير والمتوسط.

وفي خضم كل ذلك، فقد أضعفت جذوة الحركة الشبابية الطامحة طموحا جامحا للتغيير وغطت عليها قوى أكبر منها، ولا سيما المعسكرين اللذين ولدا في مرحلة الاحتلال الأجنبي للبلاد وما بعدها، الجيش والإخوان. وبعد تاريخ حافل بالكر والفر، كشر الطرفان عن أنيابهما مجددا وراحا ينشبانها في جسد بعضهم بعضا.

ومع توالي تغير الفصول على الربيع العربي، فإن الشلل السياسي الذي نتج قد فتح الباب واسعا لمزيد من عدم الاستقرار والفوضى في كل من مصر وسوريا وليبيا واليمن.

تونس -مهد الربيع العربي- هي الوحيدة التي تبدو في حال يؤهلها لتفادي المصير ذاته
، وذلك عن طريق إعادة التوازن لتياراتها السياسية وائتلافها الحاكم، ولعمري في ذلك آيات لقوم يفقهون.

القوى المناهضة للثورة المضادة
وبينما سيطرت القوى الثورية على المشهد في السنة الأولى، فإن القوى المعادية للثورة تمكنت من العودة إلى صدارة المشهد في السنة الثانية، واليوم نشهد أشكالا جديدة من القوى المناهضة لقوى الثورة المضادة، بعضها سلمي وبعضها الآخر عنيف، وإذا تركت من دون متابعة فإنها ستلحق المزيد من الضرر بالنظام.

وهذا يفتح الباب لثلاثة سيناريوهات:
إذا تمكن العسكر والإسلاميون -إلى جانب قوى أخرى- من تجنيب الأمة المزيد من المعاناة والتوصل إلى إطار عمل مشترك للمرحلة الانتقالية -التي تمهد للانتخابات في مصر وسوريا مثلا- فإن ذلك سيسمح ببروز نوع من الاستقرار يفتح الباب أمام تطبيق بعض من مبادئ الثورة. ولكن للأسف، فإن ذلك الأمل يبدو أنه يضعف أكثر مع مرور الأيام.
البديل عن الصراعات هو قيام القوى التي أشعلت شرارة الثورة أصلا بإشعالها مجددا، لتنقذ ثورتها من غول الحرب الأهلية ولانتشال مجتمعاتها من اليم والعودة بها إلى شاطئ الأمان
أو أن التنافر والعناد بين العسكر في مصر ومعارضيهم -خصوصا الإسلاميين- سوف يؤدي بالنتيجة لظهور مجموعات تتبع منهج العنف لا تدين بالولاء لا للعسكر ولا للإسلاميين، كما حدث في سوريا، إنها علامة مؤكدة على انحدار الدولة لنيل لقب "الدولة الفاشلة". 
وتوالد وتكاثر الجماعات الصغيرة المناهضة للقوى المعادية للثورة سوف يستمر كما في ليبيا واليمن ومستقبلا في مصر ولبنان وباقي الدول العربية، وذلك من شأنه أن يسهم أكثر في هدم المجتمعات من الداخل.

وعلينا -والحال هذه- أن نتوقع المزيد من الطائفية والصراعات والمذابح والاغتيالات واحتمالات تشظي المجتمع الذي يقود إلى فشل الدولة.

إما ذلك، أو أن تقوم القوى التي أشعلت شرارة الثورة أصلا بإشعالها مجددا، وأن تعود إلى صدارة المشهد السياسي -ولكن بتوقعات أكثر منطقية- لتنقذ ثورتها من غول الحرب الأهلية، ولانتشال مجتمعاتها من اليم والعودة بها إلى شاطئ الأمان.

القول أسهل من الفعل! نعم ذلك معلوم، ولكن هل هناك بديل آخر؟ الجواب، لا. وكما كتبت في كتابي الأخير "العربي الخفي" فإن هذه قضية مصيرية ستتطلب مزيدا من الوقت، ومزيدا -لسوء الحظ- من الدماء.

ولكن يجب ألا يساء الفهم، فرغم المعاناة والدمار فإن القوى المناهضة للثورة سوف تفشل في النهاية في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وفي الوقت الذي قد يقتلون فيه مزيدا من البشر من أبناء شعبهم، فإنهم لن يتمكنوا من إخماد رياح التوق إلى الحرية والمساواة التي تهب على كل المنطقة، والفضل لثورة شعوبها.

No comments: